العمل على المشاريع الكبيرة ضمن ميزانية محدودة هي فرصة مميزة لارتكاب الأخطاء والتعلم منها. هذا ما حدث بالضبط عندما عملت خلال عشرة أشهر على بناء برنامج (اكتشاف) لمساعدة الطلاب على تحديد مسارهم بعد الثانوية، بعد أن تلقيت دعماً من مؤسسة خيرية لإنجازه.
لم يكن المشروع مجرد موقع بل هو أكثر من ذلك، ففيه مقياسين مقننين على البيئة السعودية، وموقع تدريب، وإنتاج مقاطع فيديو وغير ذلك، هذا بالإضافة إلى كتابة محتوى يزيد عن ألفي صفحة. (ملاحظة: قام بزيارة الموقع في الشهر الأول من إطلاقه أكثر من 132 ألف زائر وسجل فيه أكثر من 50 ألف مشترك). في هذا المقال سأتحدث عن أهم الدروس التي تعلمتها خلال هذا العمل:
أولاً: التخطيط هو المفتاح:
على الرغم من أننا نسمع ونتحدث كثيراً عن أهمية التخطيط في نجاح الأعمال إلا أنني كنت أظن أن التخطيط هو وضع التصور والخطوط العريضة للمشروع قبل البدء فيه، وهذا هو المعنى المفهوم من كلمة (تخطيط). ولكن الحقيقة أنني اكتشفت أن هذا التصور ليس صحيحاً، وأن المقصود بالتخطيط هو أعمق من ذلك بكثير. التخطيط يجب أن يشمل كل التفاصيل المهمة وغير المهمة (إذ لا تعرف متى تصبح مهمة)، والتي يجب أن توضع مكتوبة على ورق قبل أن تقدم على أي مهمة.
ثانياً: مهارات إدارة المشاريع.. يا ويلاه!
كوني طبيب، فليس من المتوقع أن أكون قد تلقيت تدريباً على مهارات إدارة المشاريع بشكل محترف. وهنا وقعت في ورطة! هذه المهارات في غاية الأهمية حيث تضبط الوقت والمال والمهام المطلوبة بشكل واضح. هذه المهارات تقضي على طريقة التفكير التي يحملها كثير من الناس – وأنا منهم- وهي: (ابدأ و سأقوم بإصلاح الأمور أثناء العمل). إن حصولك على تدريب على إدارة المشاريع نظرياً وعملياً – وليس عن طريق القراءة السطحية – أمر في غاية الأهمية، وسامح الله القائمين على نظام التعليم الذين أضاعوا وقتنا في تعلم أمور ثانوية، وحرمونا تعلم مثل هذه المهارات الجوهرية.
ثالثاً: بناء فريق العمل
من أجل إنجاز هذا العمل، استعنت بعدد كبير من المحترفين لتقديم المساعدة. إن إيجاد العاملين المهرة ضمن ميزانية محدودة هو التحدي الأكثر صعوبة في العمل. ولا أبالغ إذا قلت: إنني عملت مع أشخاص من قارات العالم الخمس، نعم القارات الخمس (بدءاً من السعودية إلى مصر وسوريا والجزائر ومروراً بتركيا وأستراليا والأكوادور وأوروبا وأمريكا)، وهذا ليس لأن العمل معقد أو لأنني أبحث عن المميزين، بل لأنني كنت أبحث عن الجودة بسعر رخيص. هذه المهمة معقدة أكثر عندما تأتي إلى المهارات النادرة التي ستضطر للهروب من العالم العربي لأن من يتقنونها يعلمون أنهم نادرين، وسيطلبون مبالغ مالية عالية، فتضطر إلى البحث في أرجاء العالم لتجد من يقوم بالعمل ضمن المال الذي تملكه، فعلى سبيل المثال: ليس من السهل أن تجد في العالم العربي من يقوم بـ (تهيئة) مقياس رائع ومجاني هو (Limesurvey) بتكلفة معقولة. وهنا لم يكن أمامي حلاً إلا أن أجد مبرمجة من (استراليا) لتقوم بالعمل بأقل من الميزانية المحددة له وبالتزام وجودة عالية. وفي مثال آخر، كنت أبحث عمن يقوم بإعداد موقع التدريب المشهور (OpenEdx) حتى استخدمه في الموقع. وجدت شركة عربية تقوم بذلك، رائع! همم بكم؟ يريدون مبلغ ثلاثين ألف ريال ليقوموا بالعمل! وهذا بشكل واضح يفوق الميزانية بأضعاف مضاعفة. وهنا بحثت وبحثت حتى وجدت شاب لطيف في (الأكوادور) يفهم القليل من العربية ليقوم بالعمل مقابل 500 ريال. دعوني أعترف أن العمل كان ضعيفاً واضطررت لأبحث من جديد عمن يكمل ما لم يستطع هو القيام به لأجد شاباً فلسطيناً مقيماً في بريطانياً ليكمل العمل مقابل 2000 ريال فقط!
رابعاً: ساعد الذين يعملون معك على النجاح
لقد قابلت خلال هذه الرحلة شباب رائعين، يقومون بأعمال مميزة، وبأسعار منافسة. لكنني تعلمت أنه مهما كان الموظف محترفاً إلا أنك يجب أن تساعده على النجاح. وهذا ليس سهلا لكنه يضمن لك منتجاً جيداً والأهم من ذلك هو أنك ستستغني عن متابعته بعد فترة. كيف أساعده؟ (1) تأكد في البداية أنه الشخص الأنسب. التوظيف السريع خطيئة لها تبعات سلبية على الطرفين. (2) لا تفترض أن الموظف يفهم المشروع كما تفهمه أنت، لذا جهز مستنداً يشرح الصورة العامة للمشروع وأرسله له قبل البدء، ومن ثم قم بالشرح والتوضيح حتى يستوعب الهدف من العمل. (3) سجل بالتفصيل ما المتوقع منه عمله، والأفضل بل من المهم أن تقوم بإعداد (نموذج مثالي) مشابه لما تتوقعه منه (4) راجع أعماله الأولى وقم بتصحيحها وإرسالها له مع بعض كلمات التشجيع.
خامساً: هل يوجد شخص آخر يمكنه القيام بما تقوم به أنت؟
جزء من الوقت الذي أنفقته في هذا المشروع كان يمكن حفظه عبر تفويض العمل لشخص آخر للقيام به. لقد تعلمت أن أكرر على نفسي كل يوم، بل كل ساعة هذا السؤال الملهم: هل يوجد شخص آخر في العالم يمكن أن يقوم بهذا العمل بدلاً عني ضمن حدود الوقت والسعر المحدد؟ هذا السؤال سيحميك من التورط في أعمال صغيرة تستهلك الوقت والجهد، في حين أنه يمكن إسنادها لشخص آخر بأقل تكلفة وبالتالي سيكون لديك وقت إضافي لصرفه في أعمال أعلى قيمة. سأضرب مثالاً هنا: حتى يتم رفع صور الموقع بطريقة برمجية يجب ترقيمها بطريقة معينة يفهمها النظام، هنا أتحدث عن أكثر من 350 صورة، وإعادة ترقيمها سيأخذ مني ساعتين عمل، وبعدها ساعتين من (الشعور بالدوخة). هذه أربع ساعات. بينما يستغرق الإعلان عن العمل في موقع (خمسات) واختيار الشخص وشرح العمل له ومراجعته بعد ذلك أقل من نصف ساعة وعشر دولارات فقط. وعلى هذا فقس أعمال كثيرة في الموقع. بينما يوجد أعمال أخرى لا يمكن لشخص آخر أن يقوم بها أو يمكن أن يقوم بها بتكلفة عالية لا تستطيع تحملها. ومن ذلك مراجعة عمل المحررين، وإعداد المقاييس وكتابة التقارير وغيرها الكثير من الأعمال المهمة.
سادساً: بناء نموذج نجاح
عندما كنت أبحث عن شخص ليقوم لي بعمل ما، فمن الطبيعي أن أسأله: (هل قمت بعمل مشابه من قبل؟) وهنا تأتي الإجابات الصادمة، فمنهم من يقول: (لا) والتي تعني بطريقة أخرى: (سأقوم بكل التجارب عليك حتى أتعلم، ولا تستغرب إن كانت النتائج غير مرضية، فأنا أتعلم!)، ومنهم من يقول: نعم بالطبع! ومن ثم يرسل لك منتج سيء بكل معنى الكلمة، ويبرر أنه تحت الإنجاز أو أن العميل طلب منه أن يكون سيئاً! أو يقول، وهذه الإجابة الأكثر صدمة:
- نعم بالتأكيد
- رائع .. الحمد لله .. هل يمكن أن تريني إياه؟
- لا
- أوه لماذا؟
- لأنه عمل لعميل آخر ولا يمكنني أن أطلعك عليه!
- حتى وبدون أن تكشف معلومات ذلك العميل أو تريني إياه على شاشة السكايب أو .. أو.. بأي طريقة؟
- لا لا أستطيع
احترم من يحافظ على معلومات عملائه لكن في بعض الحالات يكون العمل لا يستحق كل هذه السرية وإنما هي طريقة ملتوية للتعبير عن عدم وجود خبرة سابقة في العمل.
النصيحة المهمة لنفسي ولك عزيزي القارئ: في بداية حياتك المهنية، قم ببعض الأعمال التي تقصد من ورائها بناء نموذج مثالي لما يمكنك إنجازه باحتراف حتى لو كان مجانياً أو لعميل متخيل!
سابعاً: التسويق نصف العمل
بالنسبة لشخص يميل للأكاديمية مثلي، فإن التسويق هو آخر ما يفكر فيه. بل قد تجدني أحمل فكرة: (لو كان عملا مميزاً فسينتشر لوحده بدون تسويق). هذه الفكرة ليست صحيحة. التسويق هو طريقة تفكير يجب أن تمتلكها منذ اللحظة الأولى للبدء بأي مشروع. يجب أن يكون حاضراً لديك في كل خطوة أثناء العمل، كيف يمكن صناعة محتوى أو مواد تقوم باستخدامها لتسويق المنتج النهائي حتى لو لم يكتمل بعد؟ قد تمر بمواقف مدهشة، أو قد تصلك تعليقات إيجابية أثناء العمل أو قد تخطر على بالك أفكار تسويقية مميزة، كل هذا إذا لم تلتقطه في وقته فقد يضيع ولا يعود بعد ذلك. هذه بعض الأفكار هنا:
- قم بعمل آلية لجمع وحفظ قصص النجاح أو رسائل الشكر أو أي شخص أظهر اهتماماً بما تقدمه.. هذه الرسائل مفيدة في المستقبل في أي حملة تسويق تخطط لها.
- البس نظارة (المسوّق) طوال الوقت والذي يبحث عما يشد انتباه الجمهور من أجل إبرازه وتسليط الضوء عليه دون كذب أو تدليس
- ستقابل أثناء العمل أشخاص أصحاب نفوذ أو خبرة في التسويق أظهروا اهتماماً بما تقوم به. قم بتوثيق العلاقة معهم ومراسلتهم بأهم الإنجازات وجهزهم للمشاركة معك في الحملة التسويقية، فقد يكون تأثيرهم فعال ومذهل لك.
ثامناً: لا يمكن أن تنجح بدون مساعدة الآخرين
قالت لي زوجتي يوما: ياسر، أنت لا تعرف كيف تطلب المساعدة من الناس؟ توقفت عند مقولتها هذه طويلاً، بالفعل أنا لا أجيد الطلب من الآخرين المساعدة (والمقصود هنا المساعدة المجانية برأي أو معلومة أو مصدر أو غير ذلك)، بل ربما أقضي يوماً كاملاً أبحث عن حل لمشكلة ما، بينما يمكن أن أجد حلها عبر القيام ببعض الاتصالات ضمن دائرة معارفي. هناك ديناميكيات نفسية عميقة وراء هذا لن أناقشها هنا، لكنني تعلمت أنه لا يمكن لشخص أن ينجح دون مساعدة من الآخرين، ولن يساعدك الآخرون إلا إذا طلبت منهم ذلك. هذه مهارة مهمة وفيها تفاصيل كثيرة تتعلق بكيفية الطلب ووقته ومِنْ مَنْ تطلب وغير ذلك. إذا كنت مثلي يتردد في (إزعاج الآخرين بالطلبات) فاعلم أن هذه نقطة ضعف لديك يجب أن تسعى إلى تطويرها من اليوم.
تاسعاً: ضبط الأمور المالية
من الضوابط المهمة في العمل هو ضبط الأمور المالية وكتابة العقود وتوثيق المصروفات وتحرير المستندات والاحتفاظ بها أولاً بأول. إن التهاون في هذه الأمر أو تأجيله له ثمن غالي فانتبه إلى ذلك.
عاشراً: انتبه إلى المعركة اليومية
في أي مشروع جديد ستعمل عليه يجب أن تكون جاهزا للمعركة اليومية التي ستخوضها. هذه المعركة هي معركة داخلية على أكثر من مستوى: 1) مستوى الأفكار: (هل ما أقوم به مهم؟ مفيد؟ مناسب لي؟ هل يستحق كل هذا الجهد؟ لماذا لا أعمل في مشروع آخر أكثر فائدة؟ أكثر ربح؟ أكثر برستيج؟ ..) وهكذا سيل من الأفكار المتناقضة والسلبية التي ستغزوك كل يوم ويجب أن تتعامل معها عبر العزيمة ووضوح الرؤية ومن ثم (تطنيش) بعض نصائح الآخرين وملاحظاتهم وتعليقاتهم الساخرة. 2) مستوى المشاعر، فالإحباط سيزورك بشكل متكرر في أي مشروع طويل الأمد. هذا أكيد ولا مفر منه بسبب التحديات المتوقعة في مثل هذه الأعمال. هذه الإحباطات خطيرة إذا لم تقم بمعالجتها بشكل سريع وفعال. 3) مستوى السلوك اليومي. فالالتزام بالعمل والإنجاز بشكل يومي ومقاومة الإغراءات التي ستعترض طريقك بأخذ وقت للراحة وإضاعة الوقت هنا وهناك هو تحدي يومي يجب أن تكون جاهزا لمقاومته.
ختاماً: النصيحة الأهم في كل هذا المقال الطويل هو أهمية اللجوء إلى الله عز وجل والوقوف على بابه طالباً توفيقه وعونه وتسديده فهذا أمر أساسي ولا يمكن تحقيق أي إنجاز بدونه. وتذكر:
إذا لم يكن عونٌ من الله للفتى .. فأولُ ما يجني عليه اجتهادُهُ
0 عدد التعليقات